السبت 6 ديسمبر 2025 07:17 مـ 15 جمادى آخر 1447هـ
أراء

إيهاب الديك يكتب : حين يصنع الرجال مجدهم… حكاية ثلاثة أجيال

أبي الحكايه التي لم ترو بعد
أبي الحكايه التي لم ترو بعد

ننشأ صغارًا وفي قلوبنا دهشةُ البراءة التي تُخفِي عنّا تفاصيل الحياة.
نرى بيتًا هادئًا، ودفئًا يملأ الزوايا، ووجوهًا تحبّنا بصدق، فلا نلتفت إلى الجذور العميقة التي أقامت هذا الدفء، ولا إلى التضحيات التي شُيّد بها هذا البيت.
ومع مرور السنوات، نكتشف أنّ خلف كل لحظة أمان حكايةُ رجلٍ وقف في مواجهة الدنيا وحده… رجل اسمه الجد.

كان جدّي رجلًا بسيطًا، محدود المال، لكنّه واسع القلب، قويّ المعدن.
لم يترك لنا أراضي ولا ميراثًا مادّيًا، بل ترك ما هو أبقى وأغلى: مروءته، وشهامته، ومبادئه التي لا تهتزّ.
كان فقيرًا، يبحث أحيانًا عن قوت يومه، وينام وهو يفكّر من أين يأتي بثمن الغد.
ولكنّ روحه كانت غنيّة… غنى يُشبه نورًا خفيًا لا يراه إلا من عاشره وعرف صدقه.

كان يؤمن أنّ العلم هو الباب الذي يفتح للإنسان مستقبلًا لا يسدّه الفقر ولا الظلم.
لذا، رغم ضيق اليد وقسوة الظروف، أصرّ أن يتعلّم أبي.
كان يقول:
“ابني لن يرث الفقر… بل سيرث القدرة على هزيمته.”

كبر أبي وسط ظروف لم تكن رحيمة.
رحلت أمّه وهو لم يتجاوز العامين، فوجد نفسه في حضن زوجة الأب، حضنٍ خالٍ من الأمومة، لا يعرف الاحتواء ولا الحنان.
عاش حياةً ناقصة العطف، كثيرة الشقاء، لولا أنّ الله أرسل له أخوالًا جعلوه ابنهم، وفتحوا له قلوبهم قبل بيوتهم.
كانوا له الأمّ والمعين، والظلّ الذي احتمى به في طفولته المكسورة.

ورغم قسوة البدايات، تفتّح أبي كنبعٍ صافٍ لم تعكره الأيام.
كان جميل الطلعة، هادئًا، مهيبًا من غير تكبّر، خجولًا من غير ضعف.
يُعامل الناس بأدب، ويُحافظ على الأمانة كأنها عبادة.
وكان يحمل في قلبه حبًا عظيمًا لجده وأهله، يذكر فضلهم، ويعتبرهم وطنه الأول والأخير.

ومع الأيام، سار في طريق العلم كما أراد له والده.
اجتهد، سهر، تعلّم، ونهض من تحت الصفر.
دخل سوق العمل بقلبٍ مؤمن، وعينٍ لا تنظر خلفها.
فتح مشروعًا صغيرًا، فسقط.
ثم فتح مشروعًا آخر، فواجه العقبات.
ثم وقف مرة ثالثة، فأكرمه الله.

ترقّى في عمله خطوة بعد خطوة، لا بالوساطات ولا بالطرق المختصرة، بل بالصبر، والصدق، وعرقه الذي كان يكتب على جبينه كل يوم شهادة كفاح جديدة.

تزوّج، وبدأ حياته من بيت صغير، بيتٍ بسيط في شكله، كبير في روحه.
بيتٌ تتقاسم فيه الأم والأب الهمّ والأمل، وتبني فيه أمٌّ عظيمة مستقبل أبنائها كما تُبنى القلاع: حجرًا فوق حجر، ودعاءً فوق دعاء.

ومن هذا البيت انطلقت حكاية جديدة…
سبعة أبناء، كل منهم فرعٌ من شجرة زرعها الجد وسقاها الأب.

خرج منهم الطبيب…
والضابط…
وأستاذ كلية الطب…
والمذيع المعروف…
والموظف الكبير في البنك…
وغيرهم ممن حملوا اسم أبيهم بكرامة، ورفعوا رأسه أمام الدنيا.

هذه ليست مجرّد قصة تتلى…
إنّها شهادة على أنّ الفقر ليس قدرًا، بل مرحلة… وأنّ الوجع ليس نهاية، بل بداية لمجدٍ يبنيه الصابرون.

إنها حكاية رجلٍ فقيرٍ لم يستسلم، فربّى رجلًا صار سندًا لأمّة صغيرة داخل بيت.
وحكاية رجلٍ عاش حرمان الطفولة، فحوّل وجعه إلى حنانٍ يمنحه لأبنائه.
وحكاية عائلة لم تُغلق بابها يومًا في وجه الأحلام، مهما كانت الغيوم ثقيلة.

هي حكاية ثلاثة أجيال…
جيل بدأ من التراب…
وجيل شقّ الطريق بالصبر…
وجيل حصد ثمار الشرف والتعب.

لقد علّمونا أنّ المجد لا يُشترى، وأنّ الكرامة لا تُورث، بل تُصنع.
وأنّ العائلة التي تُبنى بالحب والإخلاص لا تهدمها العواصف.

تلك حكايتنا…
وتلك سيرة رجالٍ يعرفون معنى الرجولة، ويعرفون أنّ الله لا يخذل من يمشي إليه وهو مُثقلٌ بالأمل والإيمان

التعمير
أبي جدي ايهاب الديك حكاية اجيال