السبت 6 ديسمبر 2025 07:15 مـ 15 جمادى آخر 1447هـ
أراء

إيهاب الديك يكتب :أبي… الحكاية التي لم تروَ بعد

إيهاب الديك
إيهاب الديك

في كل عائلة حكاية بطلٍ صامت، لم يرفع صوته يومًا، ولم يطلب مجدًا، لكنه صنع مجده بيده.
وفي حكايتنا، كان هذا البطل… أبي.

وُلد أبي من رحم معاناةٍ قديمة، بدأت مع جدي ذلك الفلاح البسيط الذي عاش حياةً قاسية، لا يملك من الدنيا إلا قوته وعرقه ورضاه.
كان جدي راضيًا، مثابرًا، مجتهدًا، محبًّا للجميع، واسع الأفق، نقيّ السريرة، حكيمًا في تعامله مع الناس.
كان يعمل تحت شمس لا ترحم، ويحارب فقرًا لا يترك لأحد فرصة للراحة، مثل أغلب أبناء جيله في ذلك الزمن.
ومع ذلك ظل متمسّكًا بالأمل، متمسّكًا بأهم وصية في حياته:

“ولدي سيتعلم… لن يكون أسير الفقر كما كنت.”

لكن الطرق لم تكن ممهدة.
واجه أبي في طفولته ما لا يتحمله قلب طفل؛ فقد أمه وهو صغير، ونشأ في بيت زوجة الأب… بيتٍ يفتقر للحنان، ويثقل بالمسؤولية والحرمان.

ومع ذلك… لم تنكسر روحه.
عثر في أخواله على حضن بديل وسند حقيقي، فبادلهم حبًا بحب، وإخلاصًا بإخلاص، وظل وفيًّا لهم طوال حياته.
كبر أبي وهو يحمل خليطًا من الألم والإصرار، وكان حضوره يفرض احترامه دون أن يتكلم.
جميل الطلعة… وسيم… مهيب… مؤدّب… رقيق القلب…
أحبَّ الجميع، وأحبّوه، وصنع مجد عائلة بابتسامته الهادئة وحكمته التي لم تفارقه يومًا.

لم يمتلك طريقًا سهلًا، لكنه امتلك قلبًا لا يعرف اليأس.
عمل، واجتهد، وسقط وقام، وواجه ظروفه بكل شرفٍ وقوة.
خطوة وراء خطوة… حجر فوق حجر… حتى بنى اسمًا لا يُنسى، ومجدًا يفتخر به الجميع.
تزوّج أبي، وأسس بيتًا صغيرًا بسيطًا، لكنه كان بيتًا من ذهب…
بيتًا مليئًا بالحب والدفء، فيه أمّ عظيمة وقفت إلى جانبه في كل خطوة من الرحلة.

ومن هذا البيت خرج سبعة أبناء وبنات…
لم يكونوا مجرد أبناء، بل كانوا امتدادًا لطريقه، وصدى لصبره، وشهادة على رجولته.

خرج منهم:
الضابط
الطبيب
الإعلامي
أستاذ الجامعة
الموظف البنكي الكبير
• وغيرهم ممن كبروا وهم يحملون اسم أبيهم كوسام على صدورهم.

هذه ليست مجرّد قصة تتلى…
إنّها شهادة على أنّ الفقر ليس قدرًا، بل مرحلة… وأنّ الوجع ليس نهاية، بل بداية لمجدٍ يبنيه الصابرون.

إنها حكاية رجلٍ فقيرٍ لم يستسلم، فربّى رجلًا صار سندًا لأمّة صغيرة داخل بيت.
وحكاية رجلٍ عاش حرمان الطفولة، فحوّل وجعه إلى حنانٍ يمنحه لأبنائه.
وحكاية عائلة لم تُغلق بابها يومًا في وجه الأحلام، مهما كانت الغيوم ثقيلة.

هي حكاية ثلاثة أجيال…
جيل بدأ من الصفر …
وجيل شقّ الطريق بالصبر…
وجيل حصد ثمار الشرف والتعب.

لقد علّمونا أنّ المجد لا يُشترى، وأنّ الكرامة لا تُورث، بل تُصنع.
وأنّ العائلة التي تُبنى بالحب والإخلاص لا تهدمها العواصف.

تلك حكايتنا…
وتلك سيرة رجالٍ يعرفون معنى الرجولة، ويعرفون أنّ الله لا يخذل من يمشي إليه وهو مُثقلٌ بالأمل والإيمان

هذه ليست حكاية رجلٍ عاش ومضى.
هذه حكاية إنسانٍ انتصر على الفقر، والحرمان، واليُتم، والظروف كلها.
حكاية من عرف الرجولة قبل أن يعرف الرفاهية،
وعرف المسؤولية قبل أن يعرف النجاح.

علّمنا أبي أن القوة ليست صراخًا، بل ثبات…
وأن المجد لا يُورث، بل يُصنع…
وأن اسم الرجل يُبنى بعرقه ويظل حيًا في أبنائه، وفي أثره الذي يبقى بعده

هذه حكاية أبي…
رجل لم يُهزم، ولم يتراجع، ولم يترك لنا إلا ما هو أثمن من المال:
الكرامة… العزة… والمبادئ والتقوي والطريق المفتوح الذي نسير فيه من بعده.

نسأل الله العلي القدير أن يطيل عمره، ويبارك في صحته، ويرزقنا برّه، ويحفظ إخوتي ويجعلنا في رباط الي يوم الدين
وأن يجعلنا على قدر الإرث الذي تركه لنا…
خُدّامًا للناس، كلٌّ في مجاله، بكل صدق وأمانه وصبر لانريد جزاءا ولا شكورا

التعمير
أبي إيهاب الديك جدي إخوتي أمي حكاية لم ترو بعد